Tuesday, November 26, 2013

الفصل الثانى


"….يهم العجوز بضرب يونس بعصاته على رأسه ولكن قبل أن تصل عصاته, ظلام"





14 مارس 1992

سعاد رشوان, فى العقد الثالث من عمرها, أب, أبنة وأخ فى عامه الأخير فى كلية الطب, رفضت الاهتمام كصديقاتها من سنها بالزواج منذ رحيل أمها وهى فى الحادية عشر من عمرها. تمحورت حياتها بالأنشغال بأبيها بعد سفر أخيها للدراسة.

فى وحدتها كانت تضع طرحة العروسة, تجدها بجوار الغسالة أو فى المطبخ واضعة الطرحة البيضاء, مشهد مريب عندما تجدها داخل الحمام بسيراميكه الأخضر واضعة الطرحة البيضاء جالسة أمام الطشط البلاستيك تدندن أغانى الزفة والأفراح لتنسى وحدتها, لكنك لن تراها, ستحرص على ألا تراها.
تعمل ممرضة بأحد المستشفيات الخاصة, عملية, متفوقة, مختلفة عن باقى الممرضات, تعرف دائماً حقوقها وواجباتها.
لم تتعرض للمعاملات السمجة من الأطباء حديثى التخرج لأنها نجحت فى فرض شخصيتها العملية عليهم, هم يخشونها.
تمنت أن تصبح طبيبة ولكن شبح الثانوية العامة لم يسمح لها بالوصول لهذا الحلم. بعد عملها كممرضة أصرت على المشاركة فى مصروف البيت لتثبت جدارتها ونجاحها لأبيها.

فى أحد الليالى كانت اخر نوات رياح الخماسين لتعلن عن فصل الربيع, الرؤية معدومة مصحوبة بموجة حارة لا تحتمل. كل الأبواب والمنافذ مغلقة لتجنب الغرق بموجة ترابية قد تضر بصحة المرضى. نجح معظم الأطباء بتجنب الحضور ذلك اليوم للنجاة من تلك النوة بالإضافة لقلة الحالات التى تصل للمستشفى فى الأيام الأخيرة بسبب عمليات الصيانة فى معظم الأقسام.

لم تستطع مغادرة المستشفى بسبب المناخ, حساسية الصدر التى لازمتها منذ الطفولة ألزمتها البقاء فى فى المستشفى حتى ساعات متأخرة, قضت الليلة تتجول فى المستشفى حتى تسمرت أمام عنبر حضانات الأطفال, لم تكن حزينة, لم تحقد, نعم تتمنى, لكنها كانت تقضى وقتها فى العنبر مستمتعة فقط بمشاهدة الأطفال, تصلى لتصبر وليرزقها ربها بظروفٍ أفضل تسمح لها بتكوين الأسرة التى تمنتها دائماً. عادت لمكتبها لتنهى بعض الأعمال المكتبية الروتينية وتنظم مرتبها واحتياجات البيت.

قضت بضعة ساعات تنهى ما بدأته حتى سمعت صوت أتربة تحتك ببلاط المستشفى, جسم غريب يقترب منها, هذا كأقرب تشبيه حتى ظهرت أمامها طفلة فى الثالثة عشر من عمرها كأقرب تقدير, نحيلة الجسد ببطن منتفخ تزحف على أرض المستشفى.
وقفت سعاد تحاول أن تستوعب الموقف حتى تبدأ فى المساعدة.
تحاملت الطفلة على نفسها حتى وقفت ونظرت نظرة حادة لسعاد, عينين زرقاوتين صارختين, وجه باهت متسخ, نحيف تبرز منه عظام وجنتيها. بركت جثة هامدة أمام مكتب سعاد, همت لتساعدها, وضعت يدها على عنقها, تقرر إعلان حالة الوفاة ولكن..
دماء تسيل من تحت رداء الطفلة بغزارة حتى برز جسم غريب يتحرك من بين فخذى الطفلة, طفل..
كى تنقذ حياته لم تنتظر اخطار احد الأطباء, قامت بقطع الحبل السرى, حملت الصبى, اتجهت به للحضانات, لا يوجد مكان للطفل, عادت لتتفقد الأم, أو الطفلة, لكنها اختفت.

كقرار طبيعى ستبدأ اجراءاتها الروتينية وتتصل بالشرطة وتخطر المدير بالواقعة ثم سيحال الطفل لدار أيتام على سبيل المثال, لكن بدأت الفكرة تلمع فى ذهنها.
هذا هو ما تمنته دائماً, هى تحتاج أن تعوض احتياجها الدائم لإحساس الأمومة, هذا بخلاف أنها تعلم المصير المقدر الحتمى لهذا الطفل من سوء معاملة وتشريد وقطع أرجل وثقب أعين.... حتى ينتهى به الحال شحات فى أحد محطات القطار.
تحركت بتلقائية كأنها خطة معدة مسبقاً ونفذت ألاف المرات, لفت الطفل فى ملائة, الساعة قاربت للسابعة صباحاً, انتظرت وصول من يحل محلها, هرولت لمنزلها بالطفل, أغلقت باب غرفتها, أراحت ظهرها عليه وأنزلقت حتى الأرض وعلى وجهها ابتسامة عارمة, هى تعلم كم التحديات التى تنتظرها, تساؤلات كل من حولها, الجيران, الأصدقاء, الأقارب,.... أبيها؟!

لم تقو على استمرار التساؤلات فى ذهنها حتى نامت فى مكانها.

  • أنا مش قادرة أفتح عينى, أنا هموت؟ أصحى, أصحى, أصحى, طب أجرب اتحرك, بابـ...

لم تستطع حتى أن تحرك شفتيها أو تخرج أى أصوات
  • أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, الولد فين؟؟ مش باينله صوت, هو كان حلم ولا ايه؟؟

لم تنم جيداً, استيقظت عصر نفس اليوم. اتجهت للمطبخ لتتفقد أبيها, ولكنه لم يكن حلماً..
  • سوسو, كويس إنك صحيتى يا حبيبتى, خدى شيلى الولد عشان بهدلنى

بدون أن تنطق كلمة, توجهت لتحمل الطفل, كان أبيها قد نظفه وغسل جسمه جيداً, ولكنه لم يسأل, لم يسأل أى سؤال عن الطفل.
كأنه يخشى الإجابة..
داخل عقل سعاد الكثير من التساؤلات, لا تعرف تبداً بأيهم..
تعجبت من تقبل أبيها وجود الطفل فى البيت على الرغم من أنه لم يطرح أى أسئلة.
صباح اليوم التالى بدأت لللإعداد لأوراق الطفل الحكومية واستغلت كافة علاقاتها من الأصدقاء القدامى وكل من أسددته معروفاً أو جميلاً فى التأمين الصحى أو كافة المصالح الحكومية, تبنته, هو ابنها الآن طبقاً للأوراق الرسمية.
ولكنه لم يسأل...


  • طلعنا من هنا حالاً...

حاول يونس جاهداً أن يستيقظ ومع محاولاته يزداد حمل على صدره, صبر وصمد حتى استيقظ, اخذ الأمر نحو نصف دقيقة حتى يتأكد أنه فى منزله... حلم
  • ماما!!
  • يونس, أخيراً صحيت, أنا حاولت اصحيك أربع مرات وقعدت تخرف فسيبتك تكمل نوم, أنا نازلة المستشفى دلوقتى, عندك الغدى فالفرن, هتتغدى لوحدك عشان متأخرة.
  • مش قادر اتغدى دلوقتى, سيبيلى دوا صداع ولا أى حاجة على الكومودينو عشان مصدع
  • إيه اللى فقورتك ده؟
  • فى إيه؟
  • فى كدمه فقورتك, إنت كنت بتتخانق ولا ايه؟

لم يكن حلماً, بدأ يتذكر المدافن, الرجل العجوز والصوت الأنثوى مجهول المنصدر.
  • لأ وأنا نايم وقعت من على السرير بس كملت نوم من غير محس بوجع, هتصرف دلوقتى انزلى المستشفى إنت بس.
  • إنت كذاب يا ولد, هو أنا أول مرة أشوف كدمات.
  • ماشى أنا كذاب, متشكر.
  • أنا نازلة الشغل دلوقتى ولما ارجع هتقولى ايه حكاية اللى فوشك ده ومين عمل فيك كدة.
  • هو جدو كان بيدلعك بيقولك ايه؟
  • بتغير الموضوع, لما ارجع لينا قعدة طويلة, الدوا عندك اهه.

بمجرد أن خرجت حتى بدأ الألم يعتصر رأسه, تمالك نفسه حتى خرجت حتى لا يشعرها بأى قلق, تناول الدواء من على الكومودينو. لم تمر خمس دقائق حتى بدأ عقله يستريح. توجه لدولاب والدته ليتفحص صور جده القديمة حتى وجد صورة تعود لأوائل التسعينات. فوجئ من دقة ما شاهده فى حلمه, أو ما يعتبره حلم, هو لم يستقر عقله بعد على ما كان واقع وما كان حلم بين الأحداث التى مر بها خلال الثمانية والأربعين ساعة السابقة.
كانت الصورة له مع جده, كل التفاصيل التى شاهدها فى حلمه لشكل جده فى تلك الفترة تطابقت مع حلمه.
ارتبك من الصورة, قرر أن يعود لغرفته وينتظر عودتها ليحكى لها ما حدث, أو يظن أنه حدث.

  • لحظة, أنا جيت البيت ازاى؟! ايه اللى حصل فالجنازة

جلب هاتقه ليتصل بزميله الذى حضر جنازة والده

  • ألو, ايه يا ريس عامل ايه النهاردة؟
  • باشا! فينك وفين أيامك, مفيش مرة تفوت علينا, شكلك بقيت من العيال بتوع Qnet وجاى تقلبنا فمصلحة
  • يبنى منا كنت لسة مـ...., احنا اخر مرة اتقابلنا امتى؟
  • يجى بتاع سنتين كـ..
  • طب معلش سلام يا معلم دلوقتى خمسة كدة وهكلمك.
  • .....


شفت النور ف الضلمة قلت أجريله يمكن الحق .. لاقيت عيون ف الضلمة عليا تبحلق 
فـأتسندت على احلامى قدرت اكمل لآخر الطريق .. احساس بخوف بيبعد وايمان بيقوى بيه 
لو كان طريقك حق .. يبقى الجحيم لآى حد
على طالباب



لم يكمل مكالمته, اختلطت عليه كل الأحداث, بين الواقع والأحلام.
خارج شرفة غرفته طافت تشاهده, كعادتها, وسط نوة تراب تعلن عن فصل الربيع, نوة رياح الخماسين.

قرر أن يعود من حيث بدأ كل شئ, مدافن المنارة. نزل من منزله فى الواقع فى الإبراهيمية وسلك طريقه وسط جحافل البشر فى شارع لاجيتيه حتى وصل لشارع أبو قير ونجى من هذا التكدس النسائى.
وصل إلى المدافن بعد أن تعبأ فمه بأكواب من الأتربة والرمال حتى جف ريقه, لا يعرف إلى أين يتجه, لا يعرف عن من يسأل.
شاهده حارس المدافن ولاحظ حيرته.
  • اؤمر يا بيه, أى خدمة؟
  • سلامو عليكوا, أنا بدور على حد, هو فى حد ساكن هنا.
  • مفيش غير الشيخ عيسى الحانوتى, بس هو مش موجود دلوقتى, أؤمر تحب نوصله خبر بحاجة؟
  • لأ متشكر, هو هيغيب؟
  • معنديش فكرة واللهى

قام الرجل بفرك يديه كإشارة بأنه مستعد أن يتلو المزيد إن قدم له يونس نوع من عربون محبة. اخرج يونس من جيبه ورقة بخمسة جنيهات.
  • لا يا بيه عيب الكلام ده, شيل فلوسك فجيبك.
  • صل علنبى فقلبك متتكسفش, اعتبره عربون محبة
  • طب اتفضل قعد اشرب حاجة
  • متشكر لسة متغدى
  • شوف يا بيه, إنت ابن حلال, هو زمانه فالسكة دلوقتى تلاقيه راح بس يشترى حاجات من السوق, خد يمينك ده, امشى للاخر وخد شمالك هتلاقى بيته لو حابب تستناه هناك.
  • طيب, تشكر آريس, سلامو عليكوا.
  • عكلسلام ورحمة الله وبركاته.

سلك الطريق كما وصف له حتى وصل وهناك وجد بيت صغير أمامه استراحة تغطيها تندة, منضدة وكرسيين بلاستيك وأثار مياه تغطى الأرض أمام المنزل لترطيب المناخ قليلاً وصوت الشيخ عبد الباسط يغرد فى أركان الاستراحة قادم من راديو قديم يقاوم صوته الأتربة المعبأة بداخله, ولكنه الشيخ عبد الباسط, على الرغم من ضعف صوت الراديو إلا إنه لم يقلل من عذوبته والاسترخاء الذى أضافه للمكان.

جلس على أحد الكرسيين وانتظر حتى وجده قادم من بعيد فتأكد حينها بأنه لم يكن يحلم. لم تبد على معالم وجه الثاتى أى علامات للارتياب, التوتر, الخوف أو حتى السعادة, كأنه كان ينتظر حضوره.
  • مش هينفع نقعد برة, لو عندك استعداد تدخل لازم تكون مدرك إنك مش هتاخد كل الاجابات دلوقتى, وفى اجابات هسيبك انت تعرفها بنفسك وإن اللى هيدور ما بيننا وكل اللى هتعرفه لو حد غيرك عرفه إنت بتعرضه للخطر, موافق؟
  • ......


"... ولكنه لم يسأل ..."

يتبع

2 comments: